فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



و{ربكم} خبر.
و{الحق} صفة له.
وتقدم الوصف بالحق آنفًا في الآية مثل هذه.
والفاء في قوله: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} تفريع للاستفهام الإنكاري على الاستنتاج الواقع بعد الدليل، فهو تفريع على تفريع وتقريع بعد تقريع.
و{ماذا} مركَّبٌ من (ما) الاستفهامية و(ذا) الذي هو اسم إشارة.
وهو يقع بعد (ما) الاستفهامية كثيرًا.
وأحسن الوجوه أنه بعد الاستفهام مزيد لِمجرد التأكيد.
ويعبر عن زيادته بأنه ملغى تجنبًا من إلزام أن يكون الاسم مزيدًا كما هنا.
وقد يفيد معنى الموصولية كما تقدم في قوله تعالى: {ماذا أراد الله بهذا مثلًا} في سورة [البقرة: 26].
وانظر ما يأتي عند قوله: {ماذا يستعجل منه المجرمون} في هذه [السورة: 50].
والاستفهام هنا إنكاري في معنى النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء في قوله: {إلا الضلال}.
و{بعْدَ} هنا مستعملة في معنى (غير) باعتبار أن المغاير يحصل إثر مغايره وعند انتفائه.
فالمعنى: ما الذي يكون إثر انتفاء الحق.
ولما كان الاستفهام ليس على حقيقته لأنه لا تردد في المستفهَم عنه تعيّن أنه إنكار وإبطال فلذا وقع الاستثناء منه بقوله: {إلا الضلال}.
فالمعنى لا يكون إثر انتفاء الحق إلا الضلال إذ لا واسطة بينهما.
فلما كان الله هو الرب الحق تعين أن غيره مما نسبت إليه الإلهية باطل.
وعبر عن الباطل بالضلال لأن الضلال أشنع أنواع الباطل.
والفاء في {فأنَّى تصرفون} للتفريع أيضًا، أي لتفريع التصريح بالتوبيخ على الإنكار والإبطال.
و{أنَّى} استفهام عن المكان، أي إلى مكان تَصرفكم عقولكم.
وهو مكان اعتباري، أي أنكم في ضلال وعماية كمن ضل عن الطّريق ولا يجد إلا من ينعت له طريقًا غير موصلة فهو يُصرف من ضلال إلى ضلال.
قال ابن عطية: وعبارة القرآن في سوق هذه المعاني تفوق كل تفْسير براعة وإيجازًا ووضوحًا.
وقد اشتملت هذه الآيات على تسع فاءات من قوله: {فسيقولون الله}: الأولى جوابية، والثانية فصيحة، والبواقي تفريعية. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ}
وقد جاء قول الحق سبحانه: {فذلكم} إشاره منه إلى ما ذكره قَبْلًا من الرزق، وملكية السمع والأبصار، وقدرة إخراج الحيّ من الميت، وأخراج الميت من الحي، وتدبير الأمر.
إذن: فقوله سبحانه: {فذلكم} إشارة إلى أشياء ونعم كثيرة ومتعددة أشار إليها بلفظ واحدٍ؛ لأنها كلها صادرة من إله واحد.
{فذلكم الله رَبُّكُمُ الحق} [يونس: 32].
ولا يوجد في الكون حقَّان، بل يوجد حق واحد، وما عداه هو الضلال؛ لذلك يقول الحق سبحانه: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} [يونس: 32].
إذن: أنتم إنْ وجَّهتم الأمر بالربوبية ألى غيره؛ تكونون قد ضللتم الطريق، فالضلال أن يكون لك غاية تريد أن تصل إليها، فتتجه إلى طريق لا يوصِّل إليها. فإن صُرفتم من الإله الحق فأنتم تصلون إلى الضلال.
ولذلك يُنهي الحق سبحانه الآية بما يبين أنه لا يوجد إلا الحق أو الضلال، فيقول سبحانه: {فأنى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32].
أي: أنكم إن انصرفتم عن الحق سبحانه وتعالى، فإلى الضلال، والحقُّ واحد ثابت لا يتغيَّر.
ومَنْ عبد الملائكة أو الكواكب أو النجوم؛ أو بعض رسل الله عليهم السلام أو صنمًا من الأصنام؛ فقد هوى إلى الضلال.
وإن كنتم تريدون أن نجادلكم عقليًا، فَلْنقرأ معًا قول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)}
قوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ}: يجوز أن يكونَ ماذا كلُّه اسمًا واحدًا لتركُّبهما، وغُلِّب الاستفهامُ على اسم الإِشارة، وصار معنى الاستفهامِ هنا النفيَ ولذلك أوجب بعده بـ {إلا}، ويجوز أن يكون ذا موصولًا بمعنى الذي، والاستفهام أيضًا بمعنى النفي، والتقدير: ما الذي بعد الحق إلا الضلال؟. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)}
ما يكون من موضوعات الحق، ومتعلقاتِ الإرادة، ومتناولاتِ المشيئة، ومُجنَّساتِ التقدير، ومُصَرِّفاتِ القدرة- فهي أشباحٌ خاوية، وأحكامُ التقديرِ عليها جارية. اهـ.

.تفسير الآية رقم (33):

قوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانوا جديرين عند تقريرهم بهذه الآية وإقرارهم بمضمونها بأن يقولوا: سلمنا فأسلمنا ولا نصرف عن الحق أبدًا، فلم يقولوا، كانوا حقيقين بأن يقال لهم: حقت عليكم كلمة الله لفسقكم وزوغانكم عن الحق.
فقيل: هل خصوا بذلك؟ فقيل: بل {كذلك} أي مثل ذلك الحقوق العظيم {حقت كلمت ربك} أي المحسن إليك بإهلاك أعدائك: الكلمة الواحدة النافذة التي لا تردد فيها، ومعنى الجمع في قراءة نافع وابن عامر أنه لا شيء من كلماته يناقض الكلمة التي أوجبت عذابهم، بل كلها توافقها فالمراد واحد، أو يكون ذلك كناية عن أن عذابهم دائم فإن كلماته لا تنفذ {على} كل {الذين} فعلوا فعلهم لأنهم {فسقوا} أي أوقعوا الترك لأمر الله وأوجدوا عصيانه وفعلوا الخروج عن طريق الحق والخروج عن دائرة الصلاح، وهو كونهم أمة واحدة إلى دين أبيهم آدم صَفيُ الله عليه السلام؛ ثم علل ذلك الحقوق بقوله: {أنهم لا يؤمنون} أي لا يتجدد منهم إيمان أصلًا، وعبر بالفسق المراد به الكفر لأن السياق للخروج عن دائرة الدين الحق في قوله: {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} وهذا المعنى أحق بالتعبير للفسق الذي أصله الخروج عن محيط في قولهم: فسقت الرطبة عن قشرها- أي خرجت، أو يكون المعنى: حقت الربوبية له سبحانه بهذا الليل، وهو فعل هذه الأمور المختتمة بالتدبير المقتضي للوحدانية له سبحانه قطعًا لأنه لو كان قادر يساويه في مقدوره لأمكن أن يمانعه، وبطل أن يكون قادرًا، وحق أن من زاغ عن الحق كان في الضلال كما حق هذا {كذلك حقت} أي ثبتت ثباتًا عظيمًا {كلمت ربك على} كل {الذين} قضى بفسقهم منهم.
و{أنهم لا يؤمنون} تفسير لكلمته التي حقت؛ والرزق: جعل العطاء الجاري. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ عَلَى الذين فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}
ففيه مسائل:

.المسألة الأولى: [في الكفر بقضاء الله تعالى وإرادته]:

احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر بقضاء الله تعالى وإرادته، وتقريره أنه تعالى أخبر عنهم خبرًا جزمًا قطعًا أنهم لا يؤمنون، فلو آمنوا لكان إما أن يبقى ذلك الخبر صدقًا أو لا يبقى، والأول باطل، لأن الخبر بأنه لا يؤمن يمتنع أن يبقى صدقًا حال ما يوجد الإيمان منه والثاني أيضًا باطل، لأن انقلاب خبر الله تعالى كذبًا محال فثبت أن صدور الإيمان منهم محال.
والمحال لا يكون مرادًا، فثبت أنه تعالى ما أراد الإيمان من هذا الكافر وأنه أراد الكفر منه، ثم نقول: إن كان قوله: {فأنى تُصْرَفُونَ} يدل على صحة مذهب القدرية، فهذه الآية الموضوعة بجنبه تدل على فساده، وقد كان من الواجب على الجبائي مع قوة خاطره حين استدل بتلك الآية على صحة قوله أن يذكر هذه الحجة ويجيب عنها حتى يحصل مقصوده.

.المسألة الثانية: [في قراءة قوله: {كَلِمَتُ رَبّكَ}]:

قرأ نافع وابن عامر {كلمات رَبَّكَ} على الجمع وبعده {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كلمات رَبَّكَ} [يونس: 96] وفي حم المؤمن {كَذَلِكَ حَقَّتْ كلمات} [غافر: 6] كله بالألف على الجمع والباقون {كَلِمَتُ رَبّكَ} في جميع ذلك على لفظ الوحدان.

.المسألة الثالثة: الكاف في قوله: {كذلك}:

للتشبيه، وفيه قولان: الأول: أنه كما ثبت وحق أنه ليس بعد الحق إلا الضلال كذلك حقت كلمة ربك بأنهم لا يؤمنون.
الثاني: كما حق صدور العصيان منهم، كذلك حقت كلمة العذاب عليهم.

.المسألة الرابعة: [في تفسير قوله: {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}]:

{أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بدل من {كلمت} أي حق عليهم انتفاء الإيمان.

.المسألة الخامسة: المراد من كلمة الله:

إما إخباره عن ذلك وخبره صدق لا يقبل التغير والزوال، أو علمه بذلك، وعلمه لا يقبل التغير والجهل.
وقال بعض المحققين: علم الله تعلق بأنه لا يؤمن وخبره تعالى تعلق بأنه لا يؤمن، وقدرته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه، بل بخلق الكفر فيه وإرادته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه، بل بخلق الكفر فيه، وأثبت ذلك في اللوح المحفوظ، وأشهد عليه ملائكته، وأنزله على أنبيائه وأشهدهم عليه، فلو حصل الإيمان لبطلت هذه الأشياء، فينقلب علمه جهلًا، وخبره الصدق كذبًا، وقدرته عجزًا، وإرادته كرهًا، وإشهاده باطلًا، وإخبار الملائكة والأنبياء كذبًا، وكل ذلك محال. اهـ.

.قال السمرقندي:

ثم قال: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ} يعني: هكذا وجبت كلمة العذاب من ربك، كقوله: {ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين} [الزمر: 71] ويقال: وجبت كلمة ربك، وهو قوله: {قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18] قوله: {عَلَى الذين فَسَقُواْ}، يعني: كفروا بربهم.
{أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، يعني: لا يصدقون بعلم الله تعالى السابق فيهم، ويقال: إنَّهم لا يؤمنون يعني: لأنهم لا يؤمنون فوجب عليهم العذاب بترك إيمانهم.
قرأ نافع وابن عامر {كلمات رَبَّكَ} بلفظ الجماعة، وقرأ الباقون: {كلمة} وكذلك الاختلاف في قوله: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 96]. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} أي حكمه وقضاؤه وعلمه السابق.
{عَلَى الذين فسقوا} أي خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا.
{أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي لا يصدقون.
وفي هذا أوْفَى دليل على القدرية.
وقرأ نافع وابن عامر هنا وفي آخرها {كَذَلِكَ حَقّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ} وفي سورة غافر بالجمع في الثلاثة.
الباقون بالإفراد وأن في موضع نصب؛ أي بأنهم أو لأنهم.
قال الزجاج: ويجوز أن تكون في موضع رفع على البدل من كلمات.
قال الفراء: يجوز {إنهم} بالكسر على الاستئناف. اهـ.

.قال أبو السعود:

{كذلك} أي كما حقت الربوبيةُ لله تعالى أو كما أنه ليس بعد الحقِّ إلا الضلالُ أو أنهم مصروفون عن الحق {حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ} وحكمُه وقضاؤُه {عَلَى الذين فَسَقُواْ} أي تمردوا في الكفر وخرجوا من أقصى حدودِه {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بدلُ الكلمةِ أو تعليلٌ لحقيتها والمرادُ بها العِدَةُ بالعذاب. اهـ.

.قال الألوسي:

{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}
{كذلك} أي كما حقت كلمة الربوبية لله سبحانه وتعالى أو كما أنه ليس بعد الحق إلا الضلال أو كما أنهم مصرفون عن الحق {حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ} أي حكمه {عَلَى الذين فَسَقُواْ} أي تمردوا في الكفر وخرجوا إلى أقصى حدوده، والمراد بهم أولئك المخاطبون، ووضع الموضول موضع ضميرهم للتوصل إلى ذمهم بعنوان الصلة وللاشعار بالعلية {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بدل من الكلمة بدل كل من كل أو بدل اشتمال بناء على أن الحكم بالمعنى المصدري أو بمعنى المحكوم به، وقد تفسر الكلمة بالعدة بالعذاب فيكون هذا في موضع التعليل لحقيتها أي لأنهم الخ، واعترض بأن محصل الآية حينئذ على ما تقرر في الذين فسقوا أن كلمة العذاب حقت على أولئك المتمردين لتمردهم في كفرهم ولأنهم لا يؤمنون وهو تكرار لا طائل تحته، وأجيب بأنه لو سلم أن في الآية تكرارًا مطلقًا فهو تصريح بما علم ضمنًا، وفيه دلالة على شرف الإيمان بأن عذاب المتمردين في الكفر بسبب انتفاء الإيمان. اهـ.